
سواحل المخدرات... شطآن بلا رقابة في اليمن
تحوّل اليمن إلى محطة رئيسية لتهريب المخدرات، تمر عبرها الشحنات القادمة من البحرين العربي والأحمر، إذ يستغل المهربون ضعف الرقابة على الشطآن جراء تعدد مناطق النفوذ وتفتت الدولة ما أدى لنمو ملحوظ في معدلات الإدمان.
- دوّت صفّارات الشرطة في أحد أحياء مدينة تعز جنوب غرب اليمن، ليخيّم صمت مفاجئ داخل صالة صغيرة اعتاد الشبان التجمع فيها يومياً أثناء ما يُعرف محلياً بـ"جلسة المقيل". للحظة، ارتسمت على وجوههم علامات الجزع والخوف، قبل أن يتنفسوا الصعداء ويعودوا إلى حديثهم وضحكاتهم ونفث دخان سجائرهم، في المكان الذي يجمع من يمضغون القات ويتعاطون المخدرات في الوقت نفسه.
ترسم الواقعة السابقة ملامح دالة على ظاهرة اتساع نطاق تعاطي وإدمان المخدرات في البلاد، جراء سهولة الحصول عليها وانتشار نقاط بيعها المتخفّية في هيئة محال أو عربات لبيع المواد الغذائية، ويعكس حجم الضبطيات على الأرض جسامة الخطر،
إذ تنمو شبكة ضخمة من المهربين والمروجين تتغذّى على فوضى الحرب وضعف الدولة، وفق ما كشفته وزارة الداخلية في عدن التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا، بعد أن تمكنت من ضبط نحو 6 أطنان من المخدرات خلال عام 2023، بينما تشير إحصائية عام 2024 إلى مصادرة 1556 كيلوغراما من الحشيش، ونحو كيلو غرام ونصف من مادة الشبو، بالإضافة إلى 200.888 حبة كبتاغون، و288.595 من الحبوب المخدرة المختلفة، فيما بلغ عدد جرائم المخدرات 613 واقعة، وقبض على 1055 شخصا بين مهرب ومروج ومتعاطٍ.
في المقابل أعلنت وزارة الداخلية في ما يسمى "حكومة الإنقاذ الوطني" التابعة لمليشيا جماعة الحوثي عن ضبط أكثر من 26 طناً من مادة الحشيش في مناطق سيطرتها، و148 ألف حبة مخدرة، و4 كيلوغرامات من مادة الشبو، و4 كيلوغرامات من مادة الهيروين، و19 مليون أمبولة (عبوة) من الأدوية المخدرة، وألقي القبض على 2366 متهماً في قضايا تهريب وترويج المخدرات في العام الماضي.
انتشار واسع وأنواع عديدة
هذه الأرقام تفتح بابًا على واقعٍ أكثر تعقيدًا، فاليمن لم يعد مجرد سوق محلي للمخدرات، بل تحوّل إلى محطة ترانزيت حيوية لتجار ومروّجي السموم، في وقت يتزايد فيه عدد المدمنين المحليين من ضحايا شبكات المخدرات عابرة الحدود، ورغم أن المضبوطين بتهمة تعاطي المخدرات بلغ عددهم 854 شخصا العام الماضي، بينما كانوا 500 فقط خلال عام 2023، بحسب إحصائية من الإدارة العامة لمكافحة المخدرات التابعة لوزارة الداخلية في الحكومة المعترف بها دوليا،
إلا أنه خلف هذا الرقم البارد، تتكشف مأساة أكبر، فبحسب تقديرات مساعد مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات عادل عياش، "مقابل كل مدمنٍ يُضبط، هناك ألف آخرون خارج نطاق الرصد، ما يرفع العدد الفعلي إلى أكثر من نصف مليون مدمن يعيشون في الظل، بعيدًا عن أعين القانون، داخل دوامة تتسع بصمت".
ولا تقف الصدمة عند هذا الحد، إذ لا تملك وزارة الصحة أي بيانات عن أعداد من يخضعون للعلاج منذ عام 2013، بحسب مدير إدارة المعلومات فيها أحمد السعيدي، ما يجعل حجم الكارثة غارقا في المجهول لكن المؤكد أن البلاد سجلت انفجارا غير مسبوق في حجم الظاهرة، فعلى مكاتب مستشفى "النُّهى" للطب النفسي والإدمان في مدينة سيئون، تراكمت ملفات لم يكن أحد يتوقع أن تبلغ هذا العدد خلال عام واحد، بعدما تجاوزت 4 آلاف ملف تعود لمدمنين ارتادوا المستشفى خلال 2023، وتثبت هذه الإحصائية غير المنشورة التي حصل عليها "العربي الجديد" خطورة الوضع، إذ إن رقما كهذا يساوي عشرة أضعاف ما كان يُسجَّل قبل الحرب.
يتضح هذا عبر إفادة الشبان في جلسة المقيل الذين أكدوا على أن الحصول على المخدرات في المدينة بات سهلاً، فالمروّجون موجودون في كل مكان، يتابع محمد (اكتفى بذكر اسمه الأول خوفا من المساءلة القانونية) أن المزيد من الوافدين الجدد ينضمون إليهم يوميا في تلك الجلسات المغلقة، قائلا خلال لحديثه لمعدّ التحقيق: "أصدقائي جلبوني إلى هنا عام 2022 ومن وقتها لم أخرج من هذه الدائرة".
وأكثر المواد انتشاراً هي الحشيش، الشبو، الكبتاغون، الكوكايين، والهيروين، بحسب تقرير غير منشور صادر عن الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً عام 2023 بعنوان: وضع المخدرات في جمهورية اليمن .
ووفقا لمدير عام مكافحة المخدرات في وزارة داخلية الشرعية العميد عبدالله لحمدي، فإن إيران وباكستان وأفغانستان تعدّ مصادر رئيسية للحشيش، بينما يُهرَّب الشبو من إيران وباكستان، أما الكبتاغون فيأتي أساساً من سورية ولبنان.
تمتلك اليمن شريطًا ساحليًا طوله 2500 كيلومتر، تزدهر تجارة تهريب المخدرات في الجزء الغربي منه الممتد على البحر الأحمر من مدينة ميدي في محافظة حجة شمالًا حتى باب المندب جنوبًا، وتسيطر عليه ثلاث قوى رئيسية، بحسب إجابة مكتوبة من الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في وزارة الداخلية.
في الشمال، وتحديدًا في سواحل ميدي، تسيطر القوات الحكومية التابعة للمنطقة العسكرية الخامسة، ويدير عدد من كبار المهربين العمليات في البحر الأحمر، بحسب 3 مصادر عسكرية، ضابط برتبة ملازم أول وجنديان، أحدهما يعمل ضمن القوات المرابطة في الشريط الساحلي الغربي.

أكثر المواد انتشاراً في اليمن هي الحشيش، الشبو، الكبتاغون، الكوكايين، والهيروين
أما مدينة الحديدة وميناؤها الحيوي وما يمتد شمالها وجنوبها حتى حدود مديرية الخوخة جنوب غرب الحديدة، فتقع تحت سيطرة جماعة الحوثي التي تحتفظ بهذا المنفذ البحري كأحد أهم مصادر الإمداد والدعم. في المقابل، يمتد نفوذ مليشيا قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح على الشريط الساحلي من الخوخة حتى باب المندب، إلى جانب ألوية العمالقة التي تتمركز في بعض المناطق القريبة من مضيق باب المندب، وتشكل معا جزءا من التشكيلات العسكرية التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي. بهذا التقسيم، يظهر الساحل الغربي كمنطقة توازن حساس بين أطراف متناحرة ما يصعب ضبطه أمنيا وفق العقيد عياش.
وآلية تهريب المخدرات تتم على مراحل، تبدأ بخروجها من دول المصدر على متن سفن كبيرة، وعند وصولها إلى المياه الإقليمية تنقل الشحنات إلى سفن أصغر لمنع تتبعها عبر الأقمار الصناعية، وفي المياه اليمنية تنقل مرة أخرى إلى قوارب صيد توصلها إلى المناطق الرخوة في السواحل،
وأبرزها عبر مطابقة المعلومات التي وردت في شهادات الجنود والضباط إلى جانب تقريرين غير منشورين صدرا عن داخلية الحكومة الشرعية في عامي 2022 و2023، سيحوت وقشن وحصوين ونشطون وضبوت وهروت في محافظة المهرة شرق اليمن، وهي مناطق ذات هيمنة قبلية محلية قوية ما يمنع أي جهة حكومية من فرض سيطرتها ويتيح لشبكات المخدرات أن تنشط فيها فتعيد شحن المخدرات نحو مسارات مختلفة بين المحافظات، بحسب العقيد كريم عبيد، الذي عمل ضمن مهمات عسكرية لمكافحة تهريب المخدرات في المهرة.
الصيادون يعملون مع المهربين
في الشريط الساحلي جنوبا تعد بلحاف وبير علي، وتتبعان لمحافظة شبوة (يسيطر عليها المجلس الانتقالي الجنوبي) من أبرز نقاط التهريب، علاوة على مجدحة وحصيصة وضلومه وبروم وحله والحرير والحامي ومدينة الشحر وقصيعر وتمنون التابعة لمحافظة حضرموت التي يقع ساحلها تحت نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي.

تنشط تجارة المخدرات في الجزء الغربي من الساحل اليمني
ويؤكد الصياد ساري أكرم، أن كثيرا من زملائه يعملون في نقل المخدرات لصالح مهربين محليين مستخدمين قوارب الصيد الخاصة بهم، ويضيف أكرم الذي اختار هذا الاسم المستعار حفاظا على علاقته مع رفاقه وتجنبا لتعرضه لأي أذى من أفراد شبكات التهريب، أنه لا يتم تزويدهم بأي معلومات عن أي عملية نقل إلا قبل التنفيذ بوقت قصير لا يتجاوز ما يلزمه التجهيز لإبحار القارب، مضيفا "أن المخدرات يجري تخزينها في مستودعات خاصة أو منازل على السواحل،
وتبقى هناك لساعات فقط أو أيام قليلة، ثم يتم نقلها بعد تأمين خطوط سير تهريبها إلى مكان البيع في محافظات مجاورة"، وتسلم الكميات الصغيرة إلى المهربين الصغار وهؤلاء ينقلونها بواسطة مركبات دفع رباعي مستخدمين مسارات متعددة تتخللها جبال وعرة أو طرق ساحلية، وضرب مثالا على مسار في مدينة ذوباب التابعة لمحافظة تعز ومنها يتجه المهربون جنوبا إلى باب المندب، قبل التوجه الى طرق جبلية وعرة في مديريتي، الصبيحة بمحافظة لحج، وحيفان بمحافظة تعز، ومنها إلى مناطق سيطرة الحوثيين التي توفر سوقا كبيرة لكونها تضم العدد الأكبر من السكان، وعبر ممرات آمنة تُقسَّم الشحنات لتُوزع في السوق المحلية أو يعاد تهريبها من محافظة صعدة وينتهي ببعضها في السعودية، وتتكرر العمليات بذات الطريقة من خلال ميناء وسواحل عدن وحضرموت والمهرة.
مرور سهل عبر الموانئ
يكشف تقرير وضع المخدرات في جمهورية اليمن، أن جميع موانئ البلاد تعد من أبرز منافذ التهريب للمخدرات، وعلى رأسها ميناءا الحديدة والصليف الخاضعان لسيطرة الحوثيين، وكذلك ميناء عدن الذي تسيطر عليه قوات المجلس الانتقالي رغم وجود الحكومة المعترف بها دوليًا فيه أيضا، والمكلا والشحر وتخضعان لسيطرة الحكومة الشرعية، وميناء المخا الواقع تحت سيطرة مليشيا قوات حراس الجمهورية التي يقودها العميد طارق صالح.
وتصل المخدرات إلى الموانئ من خلال شحنات تجارية باستخدام أساليب إخفاء متعددة، وتمر بعد تسهيل نافذين، وهو الأمر الذي أكده العميد لحمدي. ورغم ذلك، لم تعلن السلطات الرسمية منذ 2014 وحتى نهاية 2023، عن ضبط أي شحنة مخدرات في الموانئ بحسب رصد أجراه معدا التحقيق،
ويؤكد ما سبق مسؤول أمني رفيع بالحكومة الشرعية قائلا: "كل شحنات المخدرات التي رصدتها الأجهزة المعنية ووصلت إلى الموانئ منذ العام 2012 اختفت ولم تصل لأيدي السلطات الأمنية، وآخرها سفينة وصلت ميناء عدن في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وكانت تحمل 3 أطنان من مخدرات الكوكايين والهيروين مخبأة في أكياس سكر موزعة على 15 حاوية من أصل 934 حمولة السفينة".

سفينة MSC Hina شوهدت قبالة السواحل الإفريقية قبل وصولها ميناء عدن (المصدر: Marine Traffic)
بالاستعانة بمنصة تتبع السفن Marine Traffic، تبين أن تلك السفينة تحمل اسم "MSC Hina"، كانت قادمة من البرازيل ثم رُصدت قبالة الساحل الأفريقي الشرقي، ودخلت المياه الإقليمية الجنوبية لليمن في 21 من أكتوبر لترسو في ميناء عدن يوم 24 من الشهر نفسه.

تغير اسم السفينة MSC Hina ثماني مرات منذ عام 1949(المصدر: Marine Traffic)
وتوصل عبر ملف السفينة في منصة التتبع، إلى أن ملكية السفينة مسجلة باسم "أنطونيس فاركلاس"، يوناني الجنسية، بينما حصلت الإدارة العامة لمكافحة المخدرات على معلومات مفادها أن مالك السفينة لبناني الجنسية، الأمر الذي يثير الشك حول طبيعة عملها، وتتعزز هذه الشكوك نتيجة تغيير أسمائها والشركات المشغلة لها باستمرار، فمنذ 1994، غيرت اسمها 8 مرات ومنذ 2001 أدارتها 10 شركات مختلفة، بحسب موقع Marine Traffic، ما يؤكد تورطها في نقل شحنات غير قانونية وفق المصدر الأمني.

تعز
هشام المحيا
عدن
تحقيقات العربي الجديد