كيف أخفى "لورنس العرب" شخصيته الحقيقية عن العرب؟
لقد انتدبت للعيش مع هؤلاء العرب كغريب عاجز عن مجاراتهم في التفكير والمعتقد، مجبراً على تدريبهم وتوجيههم في الاتجاه الذي يتفق مع مصالح بريطانيا المتحاربة مع عدوهم.
وإذا كنت قد عجزت عن تفحّص شخصيتهم، فقد نجحت على الأقل في إخفاء شخصيتي عنهم واستطعت أن اندمج كلياً في حياتهم من دون احتجاج ولا انتقاد.
وبما أنني كنت رفيقهم فلن أحاول اليوم وقد عدت إلى ارتداء الزي البريطاني الثناء عليهم أو الدفاع عنهم. بل سأحرص على أن أصوّر الأحداث كما عشتها بالفعل.
من هذه المقدمة أبدأ حديثي عن قائل هذه التصريحات المثيرة للقارئ العربي. إنها تصريحات ضابط الاستخبارات الإنكليزي،الباحث في جامعة أوكسفورد، عالم الخرائط،وعالم الآثار في الشرق، الكاتب والراوي لأحداث الثورة العربية الكبرى، توماس إدوارد لورانس المولود في بريطانيا شمال ويلز (1888-1935)، في كتابه الذي حمل عنوان "أعمدة الحكمة السبعة".
والذي اقتبس عنوانه من العهد القديم في الكتاب المقدّس، وبالتحديد من سفر الأمثال. القائل بأنّ الحكمة بنت بيتها ووضعت أعمدتها السبعة، في إشارة منه إلى أنّ هناك سبع مدن في الشرق الأوسط، عمل على رسم خرائطها في كتاب علمي أعدّه لهذا الغرض.
كتب لورانس الكتاب للمرة الأولى عام 1919 في مدينة باريس أثناء انعقاد مؤتمر السلام. لكن المخطوطة فقدت في محطة القطار، ثم أعاد كتابة المذكّرات مرة أخرى في لندن عام 1920 وانتهى من كتابته عام 1925, ولم يتم نشره إلا عام 1926.
يقول لورانس في الكتاب: "إنّ قصة الثورة العربية من أولها إلى آخرها ليست سوى قضية حياة أو موت بالنسبة للعرب. أما نحن فقد تبنيناها حبّاً بأنفسنا. أو على الأقل طمعاً بكسب المستقبل، ولم يكن في مقدورنا تحاشي ذلك إلا بخداع أنفسنا فيما نشعر ونحسّ به من دوافع.
في فجر الثورة العربية لم يكن لي أي دور ولذلك لا أتحمّل أيّ مسؤولية. أما عند نهايتها فقد كنت مسؤولاً عن الورطات التي سبّبتها لباعثيها. وذنبي الثانوي أصبح رئيسياً. ترى بأيّ صفة يجب أن أحاكم؟ لست أنا من عليه قول ذلك".
ويقول أيضاً: "لقد تعلّمت لغتهم، وطريقة حياتهم، وارتديت الزي العربي وأمضيت سنوات طويلة قبل الحرب وأنا أذرع بلاد السّاميين شمالاً وجنوباً, شرقاً وغرباً، لأتعلّم عادات القرويين وتقاليد العشائر والحضريين في كل من سوريا والعراق،
وقد أرغمني فقري على معايشة الطبقات الدنيا التي نادراً ما يلتقي أبناؤها بالأوروبيين من مسافرين وسيّاح.
ومكّنتي خبرتي التي اكتسبتها من مخالطتي للطبقات الفقيرة من أن أنظر إلى مشكلات الشرق من زاوية غير عادية، وجعلتني قادراً على أن أفهم وأفكّر من أجل الجهلة والعارفين معاً.
لم يكن في نظري من فائدة في كسب تركيا إلى جانبنا بسبب ضعفها وانهيارها الحتمي. وكنت أرى في الشعوب العربية من القوى المستترة ما يفي بغايتنا.
إذ إنّ هذه الشعوب السامية عظيمة في عقائدها الدينية نشيطة مثابرة ذات ذكاء حاد ومقدرة سياسية.
وهي تتوق اليوم بعد أن أمضت مدة تزيد عن الخمسمئة سنة تحت النير العثماني إلى الحرية. لذلك عندما أعلنت تركيا الحرب على بريطانيا انطلقنا نحن الذين نؤمن بالعرب لنعمل على تركيز الجهود البريطانية وخلق عالم عربي جديد في آسيا".
عمل لورانس بدهائه، على أن يكون حلقة الوصل بين القيادة البريطانية، والقيادة العربية التي تقاتل ضد الحكم التركي، إذ كان دوره الحقيقي مستشاراً للقيادة العربية في تقديمه المشورة العسكرية لهم، أثناء تعيينه مستشاراً للأمير فيصل نجل الشريف حسين.
لورانس كان خبيراً في تفجير السكك الحديدية التي كانت تعتمد عليها الإمبراطورية العثمانية في نقل عتادها ومؤنها من الأستانة إلى بلاد الشام ومن ثم إلى مكة المكرمة.
يروي لورانس في هذا الكتاب مذكّرات حياته التي عاشها في شبه الجزيرة العربية بين عامي 1916-1918، حيث انتدب من قبل بريطاني المهمة طرد الأتراك بالتعاون مع القبائل العربية التي اتحدت لهذه المهمة.
ووصفهم قائلاً: إنّ "العرب شعب الانفعالات والثورات والإلهامات والوحي، وعنصر العبقريات الفردية.
وأكبر صناعات العرب هي صنع المعتقدات التي تكاد تكون احتكاراً لهم. لكنه، يعود ويقول في موقع آخر عنهم: " كانت الحضارة العربية حضارة فكرية أخلاقية معنوية أكثر منها عملية.
ولحسن حظ الإنسانية أن الحضارة العربية في الحقبة التي تفتّحت فيها استطاعت أن تقدّم للإنسانية خدمات جلّى، في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في دياجير الظلام والقرون الوسطى، وما إن طغى الأتراك واستأثروا بما كان للعرب من حول وطول حتى انقلب حسن الطالع ذاك إلى سوء.
وتباعاً كان على كلّ ساميي آسيا أن يرضخوا للنير التركي الذي كان أشبه ما يكون بموت بطيء بالنسبة لأولئك الساميين.
فقد انتزعت منهم ممتلكاتهم، وفرض عليهم الأتراك قانوناً بوليساً صارماً جمّد تفكيرهم وشلّ حركاتهم وتصرّفاتهم، وفرضوا عليهم لغتهم التركية في المدارس العليا والدواوين والمحاكم.
وليس غريباً أن يصف العرب بهذا الوصف لأن لورانس تعلّم العربية وتحدّث بها. وانخرط طويلاً ضمن هذه القبائل التي اتحدت بأكملها وجعلت شعارها راية للتخلّص من الإمبراطورية العثمانية.
اعتمد لورانس على حرب العصابات وكانت مهمته الحقيقية هي اختيار قائد للثورة العربية الكبرى من أبناء الشريف حسين الأربعة، حيث انتخب من بينهم تحديداً الأمير فيصل معترفاً بذلك الخيار "هذا هو الشخص الذي أبحث عنه وهو الزعيم الذي سيسير بالثورة العربية لهدفها المنشود".
ينطوي الكتاب على 447 صفحة، تتوزّع على عشرة فصول مفصّلة يروي فيها الأحداث التي جرت معه في شبه الجزيرة العربية بالكامل،والتي انتهت بالقضاء على الإمبراطورية العثمانية ومن ثمّ تقسيم المنطقة العربية، وفق اتفاقية سايكس بيكو المشهورة تاريخياً - بين فرنسا التي عيّنت من جهتها (جورج بيكو) قنصلها العامّ في بيروت لمتابعة شؤونها،وبريطانيا بقيادة (مارك سايكس) مندوبها السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى.
ونتج عنها استيلاء فرنسا على غرب سوريا ولبنان وولاية أضنة، واستيلاء بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد،وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين.
واستيلاء روسيا على الولايات الأرمنية في تركيا وشمال كردستان، وحقّ روسيا في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الأماكن المقدّسة في فلسطين.
بعد قراءتي للكتاب أثارتني تلك التفاصيل التي يرصد من خلالها وصف الإنسان العربي، وكيف كان له الجلد الكبير في إخفاء شخصيته،وبالتالي خدمته لبلده بريطانيا.
هذا الكتاب طبع للمرة الأولى بثماني نسخ فقط،والطبعة الثانية مئة وعشرين نسخة، أما الطبعة الثالثة فكانت بمئتي نسخة وهي مخصصة فقط للمهتمين والمقرّبين منه فكرياً.
بعد انتهاء مهمته،عاد لورانس إلى إنكلترا وعيّن وزيراً للمستعمرات العربية، ومستشاراً لشؤون العرب..
الكاتب: سلام الوسوف