لماذا نحتفي بهم أمواتا ونتجاهلهم أحياء؟
ما إن يلفظ أحدهم أنفاسه الأخيرة، حتى تنطلق أفواج البشر تتسابق على رثائه، وكأن الموت فجأة أعاد اكتشاف إنسانيته، تنهال عبارات الحزن، وتنسج قصائد المديح، وترفع صور الفقيد مرفقة بكلمات منمقة عن عظمة فقده وأثره العميق،
الجميع يكتب، الجميع يبكي، الجميع يتأسف، لكن، أين كان هؤلاء الجميع حين كان الشخص حيا يتألم، ينكسر بصمت، يتخبط في أزماته دون أن يمد له أحد يدا أو حتى كلمة عزاء؟.
هل نحن مجتمع يعشق التمثيل؟ هل تحركنا مشاعر حقيقية أم أنه مجرد نفاق اجتماعي مغلف بورق الحزن المصطنع؟ لماذا ننتظر الموت حتى نظهر التقدير؟ ولماذا يصبح الشخص جديرا بالاهتمام فقط حين يصبح بلا حاجة إليه؟.
ما دفعني لكتابة هذا المنشور حجم الرثاء الذي أحاط بموت الفنان علي عنبه الذي مات مديونا وقبل ذلك عاش سنوات من الشريعة أمام المحاكم ولم يلتفت إليه أحد، ثم بعد موته تسابق المتسابقون على رثائه،
افتهان المشهري تعرضت للتهديد والترهيب وتقدمت بالشكوى إلى النيابة والأجهزة الأمنية والسلطات المحلية ولم ينصفها أحد، ثم تسابق المتسابقون بعد قتلها على إبراز محاسنها وإخلاصها لعملها،
فامتلأت صفحات التواصل بصورها وكلماتها، وكأن رحيلها منح الناس والسلطة رخصة للاستعراض!.
إن هذا السلوك ليس فقط جحودا، بل جريمة أخلاقية، نحن لا نقتل الأشخاص بأيدينا، لكننا نمارس بحقهم قتلا، من نوع آخر: الإهمال، التجاهل، القسوة، عدم الاعتراف، نقتلهم حين يحتاجون إلى كلمة، ونبخل بها، نقتلهم حين يبحثون عن دعم، ونشيح بوجوهنا، نقتلهم عندما ننتظر موتهم لنتكلم عنهم، عوضا عن الحديث إليهم وهم على قيد الحياة!.
كم هو مرير أن يشعر الإنسان أنه لا يرى إلا عندما يموت، أن لا يسمع الناس صوته إلا حين يصمت إلى الأبد، أن لا تفتح له القلوب إلا بعد أن يغلق عليه التراب!.
الاحتفاء الحقيقي لا يكون بعد الموت، بل في الحياة، الكلمة الطيبة لا معنى لها حين تقال أمام القبر، لا جدوى من الدموع إذا كانت قد بخلت بالعطف حين كان القلب ينبض، لا قيمة للتكريم بعد أن تتوقف الأنفاس..
فلنتوقف عن هذا النفاق الجمعي، لنتعلم أن نمد أيدينا للحي، لا أن نرفع أكفنا بالدعاء بعد فوات الأوان، من يستحق الاحترام بعد الموت، غالبا كان بحاجة أكبر إليه في حياته.!
فالموت لا يمنحنا فجأة فضيلة التقدير، بل يكشف عجزنا عن ممارستها في وقتها!.